الخرطوم: الرأى العام
حميّد : البسطاء يدخلون على قصائدي بلا استئذان 

حوار: الشفيع عمر حسنين



بالرغم من أن هذا الحوار مرّت عليه فترة، إلا أن ما حواه من موضوعات متجددة، أعطى فيها شاعرنا الكبير محمد الحسن سالم حميّد آراء جريئة ومفيدة، مسحت كثيراً من «غشاوة» المعرفة والوعي لدى الكثيرين ممن يقيمون تجربته، وتغيب عنهم آراءه. حميد، في هذا الحوار، أفصح عن كثيرٍ من الأشياء، وقال رأيه في تجربة الراحل مصطفى سيد أحمد، مؤكداً أن الأرض التي أنجبته ستنجب غيره، كما تحدث عن الشعر السوداني بصورة عامة، حيث يتسق رأيه مع ما أصبح في البلاد من اهتمام كبير بالثقافات الأخرى غير العربية، وفتح الباب أمامها، ختاماً للمقدمة، نقول لا يحتاج حميّد منا لمقدمة، فالرجل عرفه الناس منذ زمنٍ ليس بالقريب، مبدعاً كبيراً، وحاملاً هموم الوطن حتى في منامه، وهذا ما كان هو سبب الحوار المفصل هذا، والذي فضلناه ليكمل الحلقة السابقة عن بعض تفاصيل شهره، وألوانهما- هو وشعره- الخاصة.

-------
ـ بداية ماذا عن تجربة الشعر العامي في السودان، الأسماء الجديدة، بدايتها وتطورها، وأين هي من حركة الشعر العربي العام؟ 
ــ تجربة القدال وعاطف خيري وغيرهم من الشعراء المبدعين حقا، هي نتاج تطور طبيعي لما سبقها من تجارب في هذا المجال فالثورة الشعرية انتظمت العالم العربي «شعر الحداثة»، وتركت انعكاساتها على الشعر بصفة عامة، ومن ثم كان لابد لشعر العامية في السودان، أن ينتفض على شكله القديم لأن هناك مضامين ورؤى وأفكار جديدة تنتظر من يتناولها بطريقة مبتكرة، تشبع وجدان المتلقي الذي لا يجامل في مثل هذه الحالات.. فكانت تلك الحديقة الوارفة الظلال من مبدعي شعر العامية السودانية والتي آتت أكلها نصوصا طيبة ترقى إلى مصاف العالمية بروعة متناهية متى ما قيّض الله وسيطاً يساهم في تعريف الدنيا بها.. خاصة أن هنالك فتحاً شعريا جديدا بدأ يكتسب ملامحه في الكتابات الأخيرة للعارف بالشعر «المكاشفي محمد بخيت»، ويعتبر بمثابة إضافة حقيقية لتلك التجربة الرائدة. 
ـ تمتد تجربتك طويلاً ولكن مؤخراً ارتبط اسمك بالفنان الراحل «مصطفى سيد أحمد» حدثنا عن هذه التجربة، لاسيما وأنت كنت من أقرب الناس إليه، ماذا عن توقعاتك لاستمرار التجربة والفكرة، وهل لها أن تجهض برحيله المفاجئ؟ 
ــ تجربة الفنان السوداني مصطفى سيد أحمد لم تجد حظها الكامل من الكتابة لسبب رئيسي وهو أن هذا المبدع القتيل لم يوثق لمعظم إنتاجه الغنائي بالصورة التي تساعد المتتبعين لأثره من تقييمه بموضوعية، بعيداً عن الانطباعات الذاتية، والتي لا تجدي في مثل مبدع صاحب مشروع غنائي متكامل جعل كتّاب الأغنية ومغنّيها في ورطة من أمرهم، فمن أصابه وتر من غناء مصطفى من العسير أن يتقبل وجدانه ما هو أدنى من ذلك الطرح، فلا وطن ولا حبيبة تأتي إلاّ على إيقاعه المشبّع بصخب وضجيج القادمين من ضواحي العتمة إلى حاضرة الفجر الجديد صحيح أن مصطفى قد سجّل اسمه كمبدع جدير بالاحترام والاحتفاء والوفاء له، بيد أنه ليس هو الوحيد في هذا المشروع وان كان له القدح المعلّى فيه، فلا شك أن التجربة ستستمر مادامت الحياة مستمرة، والبلد والحمد لله عامرة بالمبدعين فقط عليهم أن يتحسسوا أوتارهم جيداً. 
مشهد مكثف
ـ الشعر السوداني ـ والعامي منه على وجه الخصوص ـ محاط بجدار كثيف من اللغات واللهجات والثقافات المتباينة في السودان، نود التعرف على ملامح المشهد الثقافي والشعري هناك بعد نصف قرن على استقلال البلاد؟. 
ــ أنت تسأل عن الشعر السوداني وهنالك مئات من الشعر السوداني بحكم التعدد الثقافي واللغوي الموجود في السودان، تجدني هنا لا أستطيع إلا التحدث بإيجاز عمّا تقصده وهو الشعر العربي السوداني.. 
لعل المتتبع لهذه المسيرة يرى أنها بدأت بقوة ووصلت قمة مجدها أبان الستينيات ولعل حركة التحرر الوطني التي كانت تسود أفريقيا بصفة خاصة في ذلك الوقت، قد تركت أثرها على أولئك الشعراء مما جعلهم يبحثون عمّا يميزهم عن الآخرين في أفريقيا والوطن العربي ويؤكد هويتهم، إضافة إلى ان رحيل المستعمر القريب عن الوطن، ترك مما ترك وجداناً مشتتاً يحتاج لمن يلملمه ويصوغه من جديد، فنشأت العديد من المدارس الشعرية وكلها بغض النظر عن طريقة طرحها للقضية، نجدها في النهاية قد استطاعت ان توجد لنا نصاً شعرياً متقدماً يحفل بالكثير من الوطن، حتى يكاد الشخص يجزم ان تلك السنوات هي سنوات الشعر العربي الفصيح في السودان، لان ما تلا ذلك من شعر يكاد اغلبه يهوم في فضاءات لا علاقة لها بالقضية السودانية والتي في تقديري هي من أعدل القضايا في العالم إذ أنها قضية تحرر وطني من كل ما هو دخيل على الروح والجسد السوداني، ويبدو هنا ان الهزائم المتتالية على الزول السوداني فعلت فعلها في البعض وجعلتهم ينكفون على ذواتهم، وأعني هنا قبضة جمرة الشعر السوداني منذ أواخر الخمسينيات، والذين لايزال العديد منهم بكامل قواهم الوطنية، إلا فئة قليلة رحلت في ريعان شبابها، ولعلهم آثروا التعبير عن أنفسهم بعيداً عن وجع القصيدة... فتركوا بعض أبنائهم وكل شعراء العامية لوحدهم للقصيدة... ولئن كانت العامية هنا نجحت أكثر من الصمود وتأكيد ذلك الوطن الجميل، إلا أنها في النهاية تظل قاصرة لوحدها في العالم ما لم تنفك تلك اللغات المتعددة من عقالها، ليحلق طائر الشعر السوداني عالياً ويحط كيف وأينما يشاء. 
ـ في العلاقة بين الشاعر ونصه، هناك تمايز بين الحضور والغياب لجدل يطول ويطول ويدور في ذات المحاور من نص جمالي وانتماء للقضية التي ربما تستعصى على الشاعر أحيانا، أو يرفضها لأسباب غير معنية بالشعر أو هو غير معني بها. إذن كيف يتحقق الجمال لدى الشاعر، وفي الشعر عموما؟ 
ــ من المؤكد أن العلاقة بين الشاعر ونصه علاقة جدلية وصريحة في عضويتها، فما نسميه شعرا لا يعدو سوى كونه ناتج الحركة بينهما أثناء عملية الخلق إلا أن من يغني بحمامة السلام غناء مسئولا لا كمن ينعق ببومة السلام نعيقا مشلولا، خلق الخالق الشاعر والجمال من طينة واحدة، جاء الشاعر ليكشف القبح، فأستنجد القبح بالسلطان الجائر.. هرعت القضية إلى الشاعر «فتلقفها» الشاعر، وما بين الشاعر والشارع احرف متشابهات فمن يعطى من؟.. ونحن على هذه الحالة ليس غريبا أن يطالعك من أجهزة الإعلام المتسلقة شاعر بلا نص أو نص بلا شاعر، وهذا أمر يحدث في الأزمنة العامة التي تعصف بالبلاد والبلاد التي في القصيدة.. 
ـ سؤال أخير، اشتهرت قصائدك بتميزها باستخدام التشخيص الدرامي واليومي على وجه الخصوص، كما أن الشخصيات يلاحظ استحيائها من عمق النسيج الاجتماعي. من البلد، لماذا هذا التميز، ولماذا البلد؟ 
ــ نزعة الحياة دائما تنحاز الى العاديين من الناس فهم الذين ينتجون الجمال، ويفككون الأشياء ليعيدوا تركيبها من جديد في نسق رائع، وهم الذين يحلون تعقيدات الواقع ويكسرون «المل بنكسر» بمهارة فائقة، ويصنعون التاريخ بذكاء مبدع وقاد، وعندما يدخلون علي بلا استئذان في قصيدتي يتفوقون على أنفسهم ولحظتها أدرك أني لست عليهم بمسيطر، فأدعهم لحالهم يتداعون.. فقط أكون قلقا على قصيدتي منهم خشية أن يفسدوها علي وكثيرا ما أوشكوا، فخذ عنك مثلا «السقا» في «جوابات ست الدار» أو «نورا» في «نورا والحلم المدردح» أو «عيسى» الذي مات على الطريقة نفسها التي في القصيدة مما اضطرني الى تغيير اسمه الى حمتو حفاظا على شجون أهله، ومرة تم اقتيادي الى مبنى جهاز امن سلطة نميري بسبب أحد الشخوص الشعرية، بعدها أُطلق سراحي، رجعت عدت الى البلد تاركا شخوصي يهيمون على وجد شعبهم هناك لأنهم منهم، هذا قليل من كثير مما تسببه الشخوص الشعرية أكثر مما تسببه الشخوص البشرية من متاعب. 

محصلة القول أن النزعة التشخيصية كما نسميها في الشعر غير مضمونة العواقب دائما، وهي أمر في غاية الصعوبة والخطورة والتعقيد في مثل حالنا.