مصطفى سيد أحمد... و(حميد)\"مشرع الحلم الفسيح\"... أغنيات برسم الحنين والشجن


فاطمة بشير نشر في الراكوبة يوم 15 - 09 - 2011


استطاع محمد الحسن سالم حميد اصطياد الشوارد وتطويع المفردات في أسلوب السهل الممتنع، وهو القادم من طين الأرض التي غطاها التعب، وظل مهموما بقضايا الوطن ويحملها حلا وترحالا عبر مفرداته التي لم تبرح الوطن "الحبيبة" في كل تفاصيل قصائده وشخوصها التي كلما قرأنا هذه النصوص وجدناها بيننا.. ولحميد موسيقى شعر لا تخطئها أذن مستمع حصيف عبر أعماله الشعرية التي فرضت نفسها على الساحة السودانية والتقت حولها القلوب، ورغم الاختلاف أو الاتفاق معه، إلا أنها تجربة تستحق الانحناءة تقديرا لها.(بت العرب النوبية)
يا بت العرب النوبية
يا بت النوبة العربية
بي شمله نخوة بجاوية
أو شجر الصحوة الزنجية
دسيني من الزمن الفارغ
من ريح المتعة الوقتية
من شر الساحق والماحق
بين دبش المدن المدعية
ولعل السهرة التلفزيونية المتميزة على شاشة النيل الأزرق والتي أطل من خلالها حميد بصحبة الإعلامية نسرين نمر، ودموعه التي لم يستطع حجبها عن عدسة الكاميرا عندما أتى صوت الراحل مصطفى سيد أحمد دافئا وعذبا في غنائية معافاة من زمن جميل جمعت ما بين العملاقين، هي ما قادني إلى مهاتفة حميد ظهر أمس الأول وأنا مليئة بالاستفهام حد النخاع، والدهشة تلجمني عندما أفكر مليا فيما أضحت عليه علاقة الفنانين والشعراء في الفترة الأخيرة، وكيف أن الالتقاء أضحى عبر ردهات المحاكم وبالتالي غابت الغنائية "الطاعمة" لأن دموع حميد في حضور صوت مصطفى أكبر شاهد على ما يمكن أن يجمع شاعرا وفنانا..
"هي.. أقيفن.. نورة فيكن
نورة نقاحة الجروف
نورة حلابة اللبيني .. للصغيرين والضيوف
نورة ساعة الحر يولع .. تنقلب نسمة وتطوف
تدي للجيعان لقيمة
وتدي للعطشان جغيمة
والمخلي الحال مصنقر ..
في تقاة الليل تندقر .. تدي لي باكر بسيمة
تكسي للماشين عرايا وفوقا أنقطع هديما."
جاء صوت حميد من على الخط كما عهدناه دائما في تواضع من يملك "والكبير كبير يا حميد"، وابتدر حديثه بالشكر والامتنان لهذا الشعب العظيم الذي اعتبر أن ما قدمه في العيد ليس سوى "حاجات الناس شلتها منهم وإن شاء الله أكون رجعتها سالمي"، ومباشرة عرجت إلى دموعه في تلك السهرة المميزة ورغم أنه صاغ المبررات لها عبر الحلقة إلا أن هذا الوفاء الكبير هو ما جعلني ألح على الاستمتاع بهذا الانسجام بينه ومصطفى والذي نفتقده كثيرا "بكيت على الحال من بعد مصطفى وكيف أننا افتقدنا صوتا شجيا وغير عادي لفنان ليس بالعادي، فهو الآن يغرد بعيدا في غير المكان"، وأيضا الدموع كانت تعبيرا عن أشياء أخرى جالت بخاطري.
(طيبة)
كل ما تباعد بينا عوارض
كل ما هواك يا طيبة مكني
تلد الغربة الُقرب الواحد
وبيك اسمي الشوق وأكني
لما أفوتك من دون خاطر
أو من دون خاطر مني تفوتي
بلقى حبايب في كل حتة
وكل بيوت الفقراء بيوتي
لا غيرت وراك الجته ولا بدلت ملامح صوتي
وهي المرة الأولى التي أظفر فيها بالحديث حول مصطفى من حميد فكان سؤالي لحميد مباشرا، مصطفى سيد أحمد كان شيوعي؟! ليأتي الرد عبر الهاتف منه قائلا "الشعب السوداني أتحرم من كثير من المبدعين، وأيضا كثير منهم ظلمهم هذا التصنيف السياسي، فالناس دائما بتقدمك للناس بالمناضل والمقاوم، وهنالك تباين واضح بين الاثنين، فالنضال مرتبط بزمن معين أما المقاومة فهي حتى الممات من أجل القضية التي تختلف باختلاف الأشخاص، والمبدع هو المبدع ولا يهم إن كان شيوعيا أو مؤتمر وطني أو اتحاديا أو غيرها من التصنيفات، والحزب الشيوعي ليس بحاجة لمصطفى سيد أحمد، والدليل بقاؤه على قضيته حتى بعد رحيل مصطفى سيد أحمد، ودائما ما أقول إن التصنيف السياسي والمبدع الحقيقي هو الأكثر قدرة على توحيد وإيصال الرسالة لمختلف الاتجاهات السياسية زي ما عمل محجوب شريف بشاعريته الفذة والعميقة ذات الجمهور مختلف الميول.. إذن يجب أن تكون المحاكمة أدبية وليست سياسية".
(يا مطر عز الحريق)
جينا ليك والشوق دفرنا
يا نشوق روجنا ودمرنا
يا المحطات الحنينة القصرت مشوار سفرنا
أوضح حميد أن مصطفى سيد أحمد لم يكن فنانا عاديا، فقد كانت لديه قدرة فائقة في اختيار النصوص الشعرية التي يتغنى بها، "وكثير من نصوصي التي تغنى بها كان يتشاور معي في حذف أو إضافة لها وطيلة فترة تعاوني مع الراحل لم أقدم له أي نص أو اقترح عليه قصيدة ليتغنى بها، فهو كان يستمع إلى جميع أعمالي ويحدد ما يريد وكل الأعمال كانت بالنسبة له سهلة التلحين لأن الفنان إذا لم يحس بما يغني فلن ينجح في تقديمه للناس.. ولعل أغنية "يا مطر عز الحريق" التي تغنى بها هي جزء من أغنية "نورا" وحتى الرمية التي ابتدعها للأغنية "من الواسوق أبت تطلع" هي ليست جزءا من الأغنية فهي نص مسرحي وضع له اللحن قاسم أبو زيد، فقد كان قادرا على الإضافة لأنه فنان حقيقي يتذوق النصوص ويضفي عليها لمسته الساحرة لتحرج عبر صوته الشجي، و"عم عبد الرحيم" أيضا كانت نصا ضمن تسعة نصوص مسجلة على شريط كاسيت قام باختيارها وتحويلها إلى نص مغنى، وكل الأعمال التي تغنى بها لشعراء من غيري استطاعت أن تشكل وجدان الشعب السوداني جميعه، فمصطفى كان يعمل على مشروع أغنية سودانية.
(يا جمة حشا المغبون)
يا جمة حشا المغبون في الزمن الهلاك منجا
تكون حانت مواعيدك يكون وقت المطر قد جا
شرق ضو البلد عيدك وطابت نسمتو العرجا
قال حميد رادا على اتهامي له "بلم" شعره عليه بعد رحيل مصطفى وأن الأمر يدل على عدم مقدرة الفنانين الآخرين على التغني بهذه الأشعار، قال "أنا كتاب مفتوح لكل المطربين لكن ما قاعد أشيل حاجاتي أوديها للناس. الداير يغني قصائدي ما بمنعوا بس يرجع لي لأن الإضافة أو الحذف يجب أن لا تكون مؤثرة في النص وخلاف كدا ما عندي غضاضة في الأمر".
(هردتي لهاتي)
وطني ولا ملي بطني
سُكاتي ولا الكلام الني
بليلتي ولا كتر سمي
سكاتي ولا الكلام الني
بليلتي ولا ضبايح طي
قليلتي ولا كُتر سمي
ولم أبرح محطة مصطفى سيد أحمد وحميد والتي كان لتوقف قطار الأغنية السودانية عندها إضافة حقيقية لا تخطئها عين، وسألت حميد مرة أخرى عن الشعراء الذين تملقوا غنائية مصطفى وأنا أتلعثم باحثة عن عبارة مناسبة قبل أن يقوم بمساعدتي "قصدك الشعراء (القشروا) بمصطفى، شوفي الشعب السوداني دا شعب حصيف ولماح وقادر يفرز حاجاته وما بخلي زول يطلع في كتفه، والشعراء الاتغنى ليهم مصطفى معروفين، وفي النهاية أنا بفترض حسن النية، فمصطفى كان محارب وحتى الاحتفال بتأبينه كاد يكون حرام".
(الجابرية)
اا الجابرية يجوك الحكماء
اا الجابرية تواصلي البره
اا الجابرية ولادك تقرا
في ختام هذا الحديث وحضرة هذين العملاقين اللذين حملا الوطن في حدقات العيون عبر الغنائية عالية الخصوص، كشف حميد ل(الأخبار) أنه غير مقتنع باعتزال الفنان محمد النصري الذي تغنى بأعمال شعرية لحميد "ست الدار، بت العرب النوبية"، قال "أنا غير مقتنع بفكرة اعتزال النصري لأن النصري خلق من أجل الغناء وإمتاع هذا الشعب، ودي ردة فعل تجاه موقف معين ودي (حردة)، وبكرة برجع زي الناس الاتجهوا للمديح وقالوا ما بنغني تاني وبعد شوية رجعوا يغنوا ويرقصوا".
(ست الدار)
بسم الحاضر والمستقبل ست الدار بت أحمد قالت
ليك يا الزين ود حامد شوقنا .. المبعوت المنك وصلت ورح سددت الطلب الفوقنا
وباقي الدين يا الزين خلصته
ما طال في بحرك في مي
آمنا بيك وموحدين
في إيدنا فاس وقلم رصاص
شتلة وكمنجة ومسطرين
وطبنجة في خط التماس
**أن تبرح هذه الواحة الوارفة التي التقى فيها الإبداع بنظيره وأمتعنا حد الدهشة وصار كائنا يمشي على ساقين، فلا نملك إلا أن نبعث بهذا الحب الذي جمع هذين القلبين إلى تلك الأرض البكر التي أنجبت هذا الجمال حد السحر، فلكل من شنف أذنيه بغنائية مصطفى وحميد بعض النصوص الشعرية..
"مصابيح السما الثامن وطشيش":
يا المصطفى الراجح حباب
كل المدائن بكتك
يا شدو عصفورنا البسيط
كل الخلوق إتوكتك
إن ما بتبيت فوق السبيط
طول مسافة ركتك
ما خوّفك صياد غتيت
لا الريح قدر يوم سكتك
عذرا... إذا حال الوطن
بالجاتو ذات ليل بكتك
بإيدينا سايقين الزمان
ماسكين خيوطو الفكتك
يا زول يا صاح زمن الغلط
تنزف في دمك يوم في يوم
لا انصرّ وشك لا عبس
أيش يعنى لو سالن نقط
من كل عابر نقطة بس
يصبح شرايين الزمن
تبقى الشوارع أوردة
وجسد البلد عافية عريس
زينة عروس... والنيل رحط
هزة صحابة بي غناك
خلي الزمن طربان يميس
نوّم في كتفو القرمصيص
والكون صاحبن وانبسط
شهّى المدائن تنتفض

الاخبار