بقعة ضوء على تجربة حميد
ما بين حميمية الريف وصخب المدينة
الخرطوم: الرأى العام
الشفيع عمر حسنين
يأخذ الريف/ البادية بكل ما يمثله المجتمع من ترابط وجداني حقيقي، وعادات اجتماعية دافئة، وحميمية وصدق في العلاقات وبصورة قوية ذلك الشكل المثالي والأنموذج في تجربة كل المبدعين من أبناء تلك الأرض الطيبة، كما تحدث أمل دنقل وخصوصاً الشعراء، حيث يمثل الماضي الجمال والخير لذاكرة المبدع الأم وتبقى العودة التي يتوقون إليها حنيناً دائما بكل ما تستطيع الكلمة حمله والتعبير عنه مما اختزنه عقل الأديب/ الشاعر وصادق عليه من أشكال الحياة الجديدة/ المدنية المحملة بذات الأريحية المتوافرة هناك، وربما وبحكم البيئة القروية/ البدوية وما تتضمنه من عفوية وفطرية في الحياة المعاشة والمتفق عليها جماعياً، تاريخياً، نفسيا، واجتماعيا، وحتى غيابياً في الذاكرة الجديدة لأبناء ذلك المجتمع عند تغير الأحوال ودخول مجتمع المدينة والحياة العصرية إليهم أو هجرتهم لها، ولكن تبقى دائما مراتع الطفولة وهدأة الريف هي صاحبة الحضور الأكثر ألقاً والأكبر حدثاً في تلك الذاكرة الوفية، وهنا يأتي دور الشعر والقصيد في التغني بذاك المهد وتمجيده، بل وصياغته في شكل أقرب ما يكون للحلم مع اشتداد زحف المدينة وضرورته وضغوط الحياة اليومية وإحساس الإنسان هناك بتنافر عناصر المجتمع المحلي بجانبه وبحالة غير مرئية من الضياع الجماعي والذوبان في دوامات جامدة لعمل وغيره من متطلبات الحياة الجديدة/ المدنية، عندئذ يبدأ الحنين إلى الذاكرة الأم محتويا الأديب/الشاعر بإحساس جارف فيكون تعبيره عن الريف معبراً يتحايل به للتعبير عن كل الرؤى الأخرى التي يحملها.
-----
وبقراءة دقيقة للتجارب الشعرية المميزة والحديثة في السودان هناك سؤال يلح كثيراً عن كيف يمكن للتراث الشعبي والفلكلور أن يدفعا القصيدة لتعبر عن الواقع اليومي والهم الجماعي والأمنيات، بدلاً من البكاء على الأطلال! وتستقطب في الوقت ذاته في مزاوجة مريحة متجانسة وبعيدة عن النشاز ذات الذاكرة الفطرية/ الأم من مثقفي وقيادات المجتمع، وبكلمات ثانية كيف يمكن للمبدع أن يحيل كل المصطلحات الصعبة والتحليلات المعقدة من المثقفين والأكاديميين والسياسيين، وغيرهم إلى طاقة شعرية ولغة تمشي بين الناس، أو كما حاول نزار قباني أن يفلسف لخطه الشعري الذي انتهجه ودافع عنه بقوة ما بين مؤيد ومعارض؟ متى يمكن أن يزال ذلك الحاجز الوهمي بين المثقف وهموم أبناء مجتمعه الحقيقية بغض النظر عن ماهيتها، كما يحاول عبد الرحمن الأبنودي في مصر أن يعبر منذ عشرين عاماً أو أكثر؟
وكنموذج لشاعر كثيف الإنتاج الشعري، و واحد ممن حاولوا أن يرسخوا لهذا النمط والرؤية المعتمدين بصلابة على هذه الخلفية بل وأصبحت أشعاره من أشهر أغنيات كبار المطربين السودانيين، ترى هل نجح محمد الحسن سالم حميد في توظيف كل ذلك لتبين ملامح قصيدة جديدة في سماء الإبداع الشعري في السودان؟ وكيف يمكن وبصورة عامة لقصيدة بهذه التفاصيل والفكرة الدقيقة من التكون أن تحفظ التوازن المفقود بين المثقف/ الحداثة والمطمح والبسيط/ العراقة والأصل؟
هناك عدة ملاحظات يمكن نقلها عن الأدوات الشعرية لدى حميد ونحن نحاول إسباغ القراءة والأسئلة السابقة هنا في عجالة على بعض قصائده.
أول ما نلاحظه هو اعتماده في كثير من قصائده خاصة الطويلة منها على نمط الحياة السردية/القصصية، حيث تكون هناك شخصية أساسية محورية تتبنى من خلال حوار مع آخر أو في مونولوج داخلي مجموعة من التساؤلات الكبيرة والمفتوحة تشمل أسئلة الحياة اليومية التي تدور حول المتغيرات الجديدة، الثوابت القديمة في البيئة الأولى/ الذاكرة الأم والتي تتصل بدورة الحياة الطبيعية هناك من مزارع وحيوانات ومواسم للخصوبة لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن دورة حياة الإنسان نفسه والذي يمثل محور البيئة وقائدها المباشر، وربما يتداخل في الأسئلة السياسي والشعري ينتصر فيها الشعري/ الأصل بمهارة فائقة تبين عمق ورسوخ «حميد» في دنيا الشعر السهل. يقول:
يابا البحر هيل منو..
هيل الله.. نوم
ومرات كثيرة تبدأ الشخصية المحورية في عقد مقارنات بين الماضي والحاضر تبدأ فيها المقارنة أقرب في حقيقتها تلمساً لبعض أوجه الحياة الهادئة في الماضي والحنين إليها هرباً من ضوضاء الحياة النفسية الضاجة والعقيمة التي تأتي بها المدينة مع مظاهرها الأخرى التي تسهل في الوقت ذاته كثيراً من الحياة في الماضي:
بُلود وبُلود. دليبن راز
متر، مد البصر، جنات خُدُر، رباها تور الساقي
حرقت.. حين جا بابور جاز..
وتتوزع الرؤى النقدية المقصودة للحالة الجديدة/ المدينة في ثنايا الحكاية السردية/ القصصية داخل القصيدة متماشية ومنسجمة مع موهبة الشاعر المتميزة في السرد القصصي بصورة محببة وشيقة تضفي عليها الصياغة الشعرية قالباً أجمل يجعل القارئ لا يمل القصيدة، بل ويتفاعل معها بشكل كبير يرغمه بإرادته وبسهولة على ان يحفظها ويتغنى بها بالرغم من دقة وبلاغة الصور البيانية فيها والتشبيهات المستوحاة من عمق البيئة والغارقة في المحلية:
يلاقوك شفع الكتاب.. نضاف وظراف بلا النسمى
يغنولك غناوى الساب.. وفي البيوضة ما في سراب
ويكثر حميد من الدعوة إلى التمسك والارتباط بالرموز الأصيلة والتعبير عن ذلك بلسان الراوي/ الشخصية وهو ما يتحول إلى القارئ نفسه وتمسكه بالحبيبة / الرمز، الوطن بالرغم من تعرضه للمغريات ومشتتات الانتباه الكثيرة والجارفة التي أصبحت المحور الأساسي في طمس ذاكرة الأم في أذهان الوافدين إلى الحياة الجديدة/ المدنية:
لا العمارات السوامق.. لا الأسامي الأجنبية
تمحى من عيني ملامحك
وانتي جاية المغربية.. دايشة داقسة المغربية
ولا ينسى في الوقت ذاته استعراض البدائل كلها لدحضها بعرض صوره المختزنة بذاكرته الأم، واستدعائها، والاستنجاد بها، ومن ثم الانتصار لها متخذاً منها القوة والقدرة:
وشك المكبوت مكندك.. سامسونايتك زمزمية
كون شبر.. طورية.. منجل.. سبحة
فانوساً مدردح، قلتي بيهن لي زمانك
يا زمان الآهة حدك يا زمان الحاجة عندك
لا تطأ الوردة الصبية
ونقرأ ذات العبير في قصيدة أخرى تمثل تحولاً أكبر عند الخطاب، ليتضمن ذاكرة الأم الواسعة، الوطن كله:
حبيبة قلبي يا سودانية.. يا أسمى معاني في زول بيعاني
يا ود ضكران يا بت دغرية
ويتخذ من الرمز معبراً لرؤاه الاجتماعية السياسية غير بعيدة الارتباط بمجتمعه وبيئته الصغيرة، يصف فيها شعره وأغانيه، فيخاطبها قائلاً:
وأنا ان سامعاني.. فضلت أغاني غبش فقرية
.. وروح غالياني
هويتك.. وإنك يا دافعاني تراحبي ايدي، كما الأشواق
وتتحول عنده القصيدة من تعبير مباشر إلى حس نقدي لاذع لكنه غير جارح، فهو نقد اجتماعي يبحث في الذات وينقبها، داعياً للخير والجمال يدفعه إلى ذلك المقارنات المعقدة التي يجريها بين الذاكرتين الأم والجديدة في مدارات وعوالم ثانية:
وطني يا فردة جناحي التاني.. وكت التاس تطير لي عالمها
وا.. وجعة الزول البجيك.. ما يلقى فيك غير الهجير
ناسا طوالي مسالمة
وكما فعل بدر شاكر السياب نجد حميد يلجأ إلى الرموز القديمة وأحياناً الأساطير ليتخذها مطية يعبر بها إلى الحاضر والمستقبل في أكثر من قصيدة ومكان:
ألف شليل يا نورة يفوتوا، عشان ما يجيك شليلك ذاتو
وتطالع في قصيدة أخرى يتناول حتى خرافات النساء القديمة
هنا المارشات.. هنا الدستور
هنا اللبيش
ولعل نشأة الشاعر في بيئة ريفية زراعية يشاركهم فيها النيل العظيم بل ويقيمها لهم مفرزاً مناخاً مترعاً بكل أشكال الحياة الجميلة المستقرة ذلك المناخ البديع مسبغاً عليهم جواً نفسياً وصحياً معافى لا مكان فيه لبوابات المدينة المرهقة من ضغوط نفسية وتنافس غير شريف وعلاقات انتفاعية لزجة، وغيرها وبالإضافة للجو المشجع تتوافر مجموعة الأصدقاء الجميلين وزملاء المهنة، كل ذلك يجعل و يحيل شاعرنا ـ كعادة الشعراء الذين يحملون ذات الذاكرة ـ إلى ذات وكينونة إنسانية مرهفة ومشبعة بذلك الحس القوي والذاكرة الثاقبة غير المعطوبة على الإطلاق للتعبير بصوت واضح عن فكرة الحياة القادمة لأبناء بلدته، ونراه أكثر ما يُعبر عنه المستقبل الجميل منطلقاً من ماض تليد، ومتحدياً حاضراً يجب ان يتغير:
نبنيك أكيد.. نبنيك جديد
نبنيك ايوه سوا سوا.. منو وجديد
إيد أبوي على ايد أخوي على ايدي انا
ويتميز حميد أيضاً بسرد المحليات ورهانات الحياة اليومية للدلالة على ذلك:
في إيدنا فاس.. وقلم رصاص
شتلة وكمنجة ومسطرين
ويؤكد أكثر معتزاً بالجو الاجتماعي والنفسي والشفاف والحياة التكافلية المشتركة:
بيوت ناسا، كرام وعزاز
سوا سوا في رخا وإملاق
منطقو روعة الاخفاق
وفي ملاحظة أخرى مهمة على قصيدة حميد هي جعله القارئ صاحب القصيدة. فيتفاعل معها بكل حميمية وسهولة تجعله يترنم بها كونها تتخذ القارئ/ المستمع الأساس، فهو الراوي عن نفسه ولها، ويتحول الشاعر إلى متفرج، يقف بعيداً يشاهد المستمع يرقص لقصيدته، نقرأ ذلك فى «عم عبد الرحيم» قصيدته القديمة المجددة:
فتاح يا عليم.. رزاق يا كريم.. صلى على عجل
وهوزز سبحته
ويعبر في القصيدة ذاتها أو نماذج كثيرة أخرى عن القارئ بصورة أكثر صراحة تبين وحدة وإمكانية المثال الواحد للجميع:
عم عبدالرحيم .. يا كمين بشر
ولا تخلو قصائد »حميد« من الأمنيات لعم عبد الرحيم والشخصيات الأخرى التي هي كل الناس في بلدته وما هؤلاء إلا مزاوجة رائعة بين البيئة/ الذاكرة الأم وتفصيلها المكون له ولشخصياته وخياله الشاعري والمحب للتغيير نحو الأفضل، فلا يجد أمامه إلا الأمنيات المرتبطة بتلك الذاكرة:
يا ريت التمر .. يا ريت لو يشيل
كل تلال أشر
ولا أيام زمان كانت ما تمر
وتبرز فكرة الحلم الضائع بوضوح كبير كدليل واضح على قوة وثبات الذاكرة الأم عنده، مما يجعل الحنين مطلباً واشتعالاً دائمين، فيستخدم الرمز معبراً عن ذلك، ولا تغيب عنه مساحات الفرح من عمق الأحزان المتواترة:
يا منقاش أحزاني انشرت
وادي الفرح اتمدد حي
وتتعدد أماكن البحث عنده، في غمرة الحيرة وترتيب الأمكنة:
آ.. رعاوة العرب الرحل
ما لاقاكم في المطراني
في كاويق الجرف الأمحل
بين أسراب الرهو الراحل
وفي قصيدته »نورا« هذا الرمز والاسم الذي ارتبط به كثيراً يوجه لومه صراحة للمدينة المليئة بالضباب ساكباً كل سخطه عليها:
تسكن المدن الضبابية السرابية الكآبة
حائط التيه والطشاشات
ولكنه حين يقرر العودة بعد أن يكمل دورة استيائه من المدينة ومن أحالها إلى تلك الصورة الضبابية السرابية، لا شيء يوقفه عن ذلك:
أصلي لمن أدور أجيك.. بجيك
لا بتعجزني المسافة .. لا يقيف بيناتنا عارض
لا الظروف تمسك بإيدي.. ولا من الأيام مخافة
ترى ماذا يفعل حميد الآن، وهو يرى صورة المدينة؟.