فهرس المقال
الصفحة 1 من 2
يقول حميد في قصيدة النخلة
نشلوبو من بير للشراب .. نسجوبو بنبر وعنقريب
تلقاها خشت في البيوت .. وبي كل صراح
جوبيل جريد يعرش سقف بيتاً جديد
الادب الشايقي بالنسبة لنا هو الاقرب لوجداننا أما أغانيهم فهي نفس الالحان النوبية ولكن لديهم سرعة الإيقاع ( الدليب ) ومعنى الكلمة بالنوبية هي التتابع بدون انقطاع .. وقد تجلت الطبيعة في منطقتهم ومنحهم الله تعالى أجمل بقعة على النيل وقد عشت في مناطقهم معلماً في مدرسة نوري الغويبة وأحببت هؤلاء الناس وشعرت أنني جزء منهم ( وكما قال وردي عن إسماعيل حسن .. لا يوجد فرق بيني وبينك مرجعيتنا واحدة نفس السواقي نفس الرواويس نفس الترابلة نفس النخيل والنيل نفس الشبه والسمة فقط عروبة اللغة وكلنا سائرون نحوها .. وربنا يستر ) .. وما نصبوا اليه وهو توحيد هذه الامة المستعربة منها والمستنوبة لتتسع الدائرة وتشمل الجميع والحقيقة ان الاحزاب والنظريات الحديثة والقديمة لا تجمع الناس في اطار واحد فالجمال والرقي من خلال الادب والفكر والشعر هو القاسم المشترك بيننا ..
وحميد ذكر كلمة ( جوبيل ) في شعره والجوبيل هو امتداد من الخشب في طرف الاخير من سقف المنزل .. وكذلك هو الاطار الاخير من الجريد في السقف .. وعندما يتم نسج السقف بالجريد يتم أختيار شخصين لهم الحرفية العالية والابداع احدهم في اقصى اليمين والثاني في اقصى اليسار اما خطوط المنتصف فيمكن ان يكون لاناس عاديين .. وتجد ان الاشخاص المكلفين بالاطرف يعرفون اختيار الجريد المناسب وخاص في الوضع الطولي وهذا هو ( الجوبيل ) ويتم الضرب على نتؤات الجريد الزائدة عن الجوبيل بواسطة مضربة خشبية ليكون الجريد في مستوى واحد مع الجوبيل هو آخر خط طولي يضبط عليه الجريد تماماً كما يفعل ناسجوا السجاجيد .. والجوبيل ايضاً آخر خشبة طويلة وتسمى ( الرصاص ) ويكون الرصاص هو بمثابة البرواز للسقف في اقصى اليمين وفي اقصى اليسار ويكون الرصاص من ساق النخيل ( اومبو) من النوع المقشور والمجهز بصورة لا تخلو من الجمال والحرفية .. وعندما يذكر حميد هذه الكلمة ( جوبيل ) تأكد انه متعمق في التراث ومأصل في تلك الارض لانها كلمة نوبية تماماً وبدون اي تردد
وهنا أيضاً سوف أدور في محور كلمة واحدة هي ( شوقر ) :
وفي قصيدة اخرى قرأت لهذا الشاعر يقول : ( كل البلد شوقر وراك .. يا جرحنا الما ببندمل ) اورد حميد كلمة ( شوقر ) وهذه كلمة اصلها نوبية وهي ( شووقر ) بالدنقلاوية او ( شوقار ) بالمحسية .. وهو الوفد او المجموعة التي تذهب للزيارة في المناسبات من منطقة الى اخرى .. فمثلاً مجموعة تتحرك من قرية الى أخرى لحضور زفاف او مناسبة فرح ( شرط مناسبة فرح ) ولا يطلق هذا المسمى على التجمع في الاحزان .. وجماعة الشوقر يكونوا في زي مميز ومعطر .. ولم يأت حميد بهذه الكلمة عبثاً او عشوائياً .. انما اتى بها ليمجد شخص او زعيم قوم او نداء الوطن .. وهذه الكلمة دلالة على علو مكانة المنادي وقيمته لدى افراد الشوقر .. وليس الاتباع هنا خوفاً من القائد او انصياعاً لقوة ولكن بإرادة حرة وطوعاً بل وفرحاً وحباً لأن الناس كانت تنتظر مشاوير الشوقر بالسنين .. ربما في العمر مرة او مرتين .. لأن جماعة الشوقر عند وصولهم الى المكان المقصود يكونوا تحت ضيافة مميزة ومنزل خاص بهم يجلب اليهم الاكل والمشروب بأنواعه .. وتكون الليالي عبارة عن غناء وطرب .. ويتم استضافتهم في منزل خاص بهم ويؤتى بالطعام والشراب وكأنه معسكر مغلق حسب نظريات هذه الايام .. وفي ذلك الزمن الجميل .. كان الدكاي يجلب الى الضيوف الجرة الكاملة ( كوبيه ) يتم فتحها أمام الضيوف .. وعند نهاية المناسبة التي غالباً ما تكون مبيت ليلة يتم الوداع بالزغاريد والطنابير إما يأتون بمجموعة حمير او بالمراكب الشراعية السفرية (بيليك) .. لذا فإن شوقر كلمة لها مدلول عميق .. وعندما يقول كل البلد شوقر وراك .. أحسب ان حميد كان يقصد الوطن فنداء الوطن لا يحتاج إلى تبرير فقط الانقياد الى حيث هو .. وثراء الشاعر بهذه الموروثات هو نتيجة طبيعية لنشأته في بيئة اصيلة فيها عمق وحضارة متجذرة ولهذا أتى بهذه الكلمة التي تمثل لوحدها قصيدة شعر .. حميد كان عميق وأتى بمفردات لا تخطر على بال أحد ابداً فأعيدوا قراءة هذا الشاعر .. رحمه الله ..