ابراهيم شوك
04-08-2012, 10:20 PM
على مزهر حميد : د. عبد الرحيم عبد الحليم 

( نشرت الجمعة ٦ أبريل ٢٠١٢ على الفيسبوك)


أكتب عن الراحل حميد في ليلة وفائه المقامة باكر السبت بمكتبة مارينا العامة فأقول:
على مزهر حميد

1

في كتاب المطالعة القديم ، أن رجلا كان شغوفا بإطعام الطير تتجمع أسراب القمري والدباس والحمام والبخيتة والكودي والبقج كل يوم لتشكل حوله غابة من الطير العاشق ، تغني للرجل الطيب أسراب الطير وتحط على كتفه وتدخل في جيوبه وثيابه بألحانها الشاكرة حتى يشاركها ممالكها الفضائية التي لا تعرف غير التحليق علوا وسموا. .حتى هدهد سليمان لم يكن غائبا عن ذلك المشهد .الذي كان غائبا عن المشهد هو الطير الجارح ...الذي لا يتغذي من الحب الذي يوزعه رجل طيب عاشق على أحبابه في مملكة الطير .وعندما مات الرجل الطيب ، غطت أسراب الطير الصديق وجه الأفق محلقة على نعشه بألحان تعرف معنى الوداع الأخير. .كانت ألحانها محزونة وأجنحتها مهيضة وخاطرها مكسور .
كذلك الرجل الطيب ، كان حميد يشتت حب الشعر الراقي في الطرقات.حميد ملأ سلال الوطن كلها بقناديل شعره الجميل ، ومثلما وحد ذلك الرجل حوله الطير ، وحّد الشاعر العظيم في وطننا الآلات الموسيقية فهذا مزمار يعانق الكمنجة وذاك طنبور يحتفي بالعود ...ذاك طبل يحتفي برق ..في ظلال حميد يحتفي الجابودي بأخيه المردوم وتغني نخلة شمالية في عيد لقاحها الأول مع شجرة دليب أو تبلدي أو أبنوسه في وطن يتسرب كالماء من بين أناملنا.إن الشاعر العظيم لم يوحد وجدان أمتنا الفني فقط ولكنه نجح في أن يحول الشعب كله إلى شعراء ..أو ليس الشعر هو الإحساس والفهم العميق والتفاعل إلى حد الانجذاب؟حميد نجح في أن يحول الشعب كله إلى راجمات هادرة تمطر قنابل وسنابل... أسلحة ومناجل..وقد رأينا طوفان الناس حول نعشه هادرا باكيا واثقا ومليئا بالوعد والأمل تماما كتحليق الطير العاشق على نعش الرجل الطيب في قصة كتاب المطالعة تلك.وظف حميد مفردات أهله في نوري ولكنه جعلها ملكا إلى كل أطفال ونساء ورجال الوطن كامتلاك وطننا لنهر عظيم إسمه نهر النيل قال عنه شاعرنا العظيم إدريس جماع:
النيل من نشوة الصهباء سلسله
وساكنو النيل سمار وندمان.

2

النيل في رحلته الأبدية من الجنوب إلى الشمال يتخلل مساماتنا ...مراعينا ومزارعنا وأعياد حصادنا وشاعرنا الراحل كان كالنيل نبلا وعذوبة...بسيطا ..نقيا ...ذكيا ...هادئا ...باسما ..قريب الدمعة .حميد والنيل يمثلان إلتقاء الطمى مع العذوبة كمجسين صديقين لهما حساسية عالية في معرفة مواضع آلامنا يشخصانها ويكتبان لنا روشتات حنونة فننمو قمحا وضرعا...نتحول إلى زغاريد جميلة وهتافات ثائرة قوية .إن النيل في رحلته الأبدية تلك ، كان قد تحالف مع جبل البركل وإهرامات نوري وجلال التاريخ وسكونه الناطق في دير الغزالة وأخبرها بأنه سيولد عند منحنى النيل في نوري شاعر قديس من علامات نبوته أنه سيحمل واسوق وطورية ومنجل ومحرات وكارديق وفرار ، ومن علامات نبوته أيضا أنه يتحول إلى قلم له قوة السلاح وحبر له رائحة البارود وفم كفم موسى حين آنس من جانب الطور نارا. هناك على جانبى طور الوطن ، وجد حميد هداه ليأتي إلى الغلابة والمسحوقين بقبس من نار الثورة والحرية والأمل الجديد وبنورها لعلهم يصطلون مرددا:
آنست في الحى نارا
ليلا فبشرت أهلي
وصرت موسى زماني
وصار بعضي كلي

3

هذا هو موسى أمتنا على جبل طوره الأسنى فلم يحب وطن أو أمة شاعرا كما أحب شعبنا حميد .ما بين تدشين ديوان "أرضا سلاح " بقاعة الصداقة وحمله إلى مستقره الأخير ملفوفا بنعش أبيض جميل من قطن الوطن ، بلغ طوفان الشعب العاشق مداه، ومن بين دموع الفاجعة ، فاضت الحناجر بهتافات الشاعر والتوق إلى وطن تحمه العصفورة لا الطلقة ..وهكذا الشاعر الخالد يظل في ضمير أمته ووجدانها الحى قائلا رغم رحيله لا للظلم والهوس والجنون في أزمنة الخوف والخنوع والنفاق وتلون الولاءات. 
لقد هام حميد بخصرها ...وجدائلها النيلية وعراجينها وطيورها وأنجمها وأقراطها المصنوعة من سعف النخيل وخدودها الملونة بلون التمر الأسمر وطمى الدميرة وضياء القمر.تلك هي خدود الحبيبة عازة وكان هو عنترها الذي عشق تقبيل الرماح لأنها لمعت كبارق ثغرها المتبسم.يرمز لحبيبته تلك عادة ب"نورة " كما في أغنييته التي يؤديها الراحل يس عبدالعظيم بالطنبور ويرمز إليها بنور ونوراى كما غنى مصطفي سيد أحمد ، وفي وجهها المصقول بسعف النخل و أوراق السدر والحراز والتبلدي يبحث الشاعر العظيم عن هوية أمته بين النخلة والأبنوسة والدرقة والسيف والشمس وهنا غنوا مع حميد ومع يس عبدالعظيم وهما على الضفة الأخرى:

الشوق من حاطف ..
لا قاطف
يتلم .. يهز ليك يا نورة
يا درقة وسيف
يا حضناً كيف
من شر الصيف
والشتاء ضاراي .. 
يا شتلة عزة بقت جواي
عدت بي ضلام بحراً عاصف
يا نور قاعد بك .. قايم بك
شايلك مورودة ومتوكل
يا نورا علينا .. علي الله
والفرج القرب .. وحايم بك
يا بت العرب النوبية
يا بت النوبة العربية
يا فردة نخوة بجاوية
أو شدر الصحوة الزنجية
دسيني من الزمن الفارغ ..
من روح المتعة الوكتية
من شر الساحق والماحق ..
بين دبش المدن المدعية
والليل اتحكر بيناته
وكحل بي دبشو عويناته
يا شمس الناس المسقية
روحّت أتنسم أخبارك ..
لا تشفق ..
قالوا لي نصيحي !!!
وأنا عارفك ممكونة وصابرة ..
لكن لي ناس إلا تصيحي
جواي مأساتك مغروسة ..
يا طفلة تفتش في باكر
ما بينات نخلة وأبنوسة
الجوع العطش الفد واحد ..
الفقر الضارب زي سوسة
الخوف والحالة المنحوسة
يا بحر الحاصل ..
لاك ناشف ..
لا قلمي الفي ايدي عصا موسى
يا أم غلباً حار ينبر فينا ..
ما عدا صباح من ها .. الميناء
كد الكداح شايلا سفينة
الناس عوجات .. تحرس .. ترجا
ترجعبو سلاح وأنوار زينة
بمبان ..
شوفونير ..
آفات ..
وسكي ..
للناس الدمنا بنزينا
فِقراً تسترزق من دينا
بايركس أبريقن ..
والموية ..
تتحدي بياض الوزينة !!!
خرزات السبحة أمريكية ..
خصل الموكيت إيطالية
دفتر شيكاتاً ربوية ..
في الجيب
والسيرة النبوية
جمب مصحف جوه البترينة
تقروقتك .. ديمة علي القبلة ..
ميهيت إبريقك بي طينا
السبحة أصابعك يا صالحة ..
يا بت الناس الصالحينا
الذمم المشرية الطالحة …
شتان بين دينك وبين دينا
شتان بين أحمد
وحاج أحمد ..
وقداس ناس ياي وسلاطينا
شناك مع الخلق النايحة
علي أرض فلسطين الفاتحة
البركة في لونك يا سيناء
يا نورا
شليلك ما فات
بي عدلو شليلك جاييكي ..
يا نورا نشيلك غنوات
وأماني بي باكر مضفورة ..


4

ولد وعاش في الشمال لكنه إنتشر بمساحة وطننا جنوبا وشمالا وشرقا وغربا في زمن إذكاء القبلية والعنصرية البغيضة.كسر حميد بشعره حاجز الخوف فأخاف الجبابرة وأفهمهم أن الحبر بارود وأن شعراء الأمة هم مشاعلها نحو الحرية والضياء .كانت حياته موجزة قصيرة لكنها طويلة ودسمة وثرية بمقياس العطاء وإكتناز الوطن ما بين الحنايا مبشرا بقدوم الفجر الجديد: 
طلابك وأقلامنا هويتك ..
قدامنا قضيتك سبورة
رتبنا الخرطة البتوصل
أدينا الخاطر يا نورا
بالمد الثوري المدافع ..
فوق دربك تب ما متراجع
رغماً عن عنت الأيام ..
والزمن الجهجاه الفاجع.

5

هو محمد الحسن حسن سالم عمر عبدالله النيل ، وفي زمن الحزن الذي فجر العقل والقلب والذاكرة ، يكتنز الذهن بفوضى المعاني وسخريتها وإزدحامها. هذا شريان من شرايين الوطن تفيض روحه على طريق شريان الشمال.أسم جده النيل وملهمه كان النيل النهر في منحنى النيل عند نوري فالنيل يعتبر جدا لحميد دما وجغرافيا.مولده كان في عام الإستقلال ورحيله تم في أزمنة الحزن والإنفصال...وحميد الذي غنى لأمته في كل أعيادها رحل قبل أن يعانق عيد حصادها الأكبر ...رحل وهو يهتف :
أرضا سلاح.

مادلا حميد

ابراهيم شوك
04-10-2012, 01:32 AM