حميد : هل نعي عم عبدالرحيم أم نعي نفسه ؟

 

رشيد خالد إدريس موسي

 

صور الشاعر حميد يرحمه الله, حال الكادحين تصويراً بليغاً في رائعته ( عم عبدالرحيم ). نظم يصور حال عبدالرحيم, و هو من هؤلاء الكادحين :
فتاح يا عليم
رزاق يا كريم
صلي علي عجل
همهم همهمة
حصن للعباد و هوزز سبحتو
دنقر للتراب هم فوق همهمة
ثم توكل علي الحي القيوم و نزل إلي الجرف, ليبدأ كفاحه اليومي, من أجل الحياة. قالت له أمونة, شريكة حياته, بعد أن ( شدتلو ) الحمار و حلبت اللبن لشاي الصباح, قالت له في عفة يخالطها حياء, و هي تصور حالها, أبلغ تصوير :
قالتلو النعال و الطرقي إنهرن
ما قالتلو جيب
شيلن يا الحبيب ودهن النقلتي و الترزي القريب
رد عليها زوجها عبدالرحيم و هو يبث شجونه و يعبر عن وفائه لها :
بس يا أم الحسن
طقهن ...آه بفيد ... طقهن آ... بزيد
إنطقن زمن
و إن طق الزمن ... لازمك توب جديد بي أياً تمن
غصباً للظروف و الحال الحرن
شان يا أم الرحوم ما تنكسفي يوم
لو جاراتنا جن مارقات لي صفاح
أو بيريك نجاح
دة الواجب إذن
و إيه الدنيي غير لمة ناس في خير
أو ساعة حزن
يعيش عبدالرحيم, و ينتمي إلي بلد , يقال عنه إنه حصل علي إستقلاله منذ نيف و خمسون سنة, و أصبح مواطنه حراً, من قيود التبعية للأجنبي و إستعماره. لكن في حقيقة الأمر, لا يعد هذا المواطن حراً, إذ لا زالت تكبله قيود العبودية و الذل, التي تتمثل في الفقر و الجهل و المرض. ليس هناك أغلال تكبل الإنسان, أسوأ من هذا الثالوث اللعين. نظر عبدالرحيم, إلي نخلاته الباسقات التي تطرح بلحاً, كل 12 شهر و تساعد في ستر الحال. حدث نفسه و قال :
عم عبدالرحيم يا حر ...إت ماك حر
ياريت التمر يا ريت لو يشيل كل تلات أشر
و لا أيام زمان كانت ما بتمر
ثم أخذ يحدث زوجه و يبث لها همومه :
كان ما جاك هوان... ما لاقاكي ضر
كان لا ضقتي ضيق لا إنغرغر صدر
و لا شابيت غريق... و لا طوح فقر
لكنه يعود إلي نفسه و يحدثها و يقول ( الحميدة لي الله ) , أخير من غيرنا, ساترين حالنا, بي نخلاتنا و بي أرضنا, و هو علي كل حال, إنسان يؤمن بما تجري به المقادير. تسمعه يحدث نفسه و يقول عن هؤلاء :
إلا كمان في ناس فايتاك بالصبر
ساكنين بالإيجار... لا طين لا تمر
وواحدين بي الإيجار... ما لاقين جحر
سلعتم الضراع و العرق اليخر
و يتمثل هؤلاء الكادحين في :
عمال المدن
كلات المواني
الغبش التعاني
بحارة السفن
حشاشة القصوب
لقاطة القطن
الجالبة الحبال
الشغلانتو نار
و الجو كيف سخن
هؤلاء هم المنتجون الحقيقيون و هم الذين لا يحس بوجودهم إلا إذا غابوا و هم وقود الثورات, فماذا ترانا نفعل تجاههم ؟ هل ندعهم يعانون من الفقر و الجوع و المرض و يحترقون, أم نعمل علي رفع مستواهم المعيشي, ليدفعوا بدورهم عجلة الإنتاج إلي الأمام ؟
و تسمعه يهمهم و يشكو من هذا الحال البائس, الذي تسببت فيه نظم حكم فاشلة, لا تنتج غير الفشل و لا يعرف القائمين علي الأمر, غير مصالحهم. يقول :
حيكومات تجي ... و حيكومات تغور
تحكم بالحجي ... بالدجل الكجور
مرة العسكري... كسار الجبور
و يوم باسم النبي تحكمك القبور
إمتطي عبدالرحيم حماره, في طريقه إلي عمله. صاحت أم الحسن :
لا تنسي النعال
الطرقي الخدار
اللبس الجديد
تسريح السفر للماشي الصعيد
ماشي الديش ... نفر
و البال إشتغل
إشتغل باله بهذه المسائل و غيرها :
بي الأبي ما يعيد ... للحول ما إشتغل
الغبن الشديد ... السابا و رحل
الضيق ... المحل
الفرج القريب
الجا ... و ما وصل
زي الحال دة يوم... لا كان لا حصل
و البال إشتغل
و هو في غمرة إنشغاله بهذه الهموم, وقع القدر و سال الدم غزير, و طارت دمعتين و إنشايح وتر. كانت النهاية المؤلمة و المحزنة لعم عبدالرحيم.
هذا عين ما حدث لشاعرنا حميد. كانت السيارة تغذ السير تجاه الصعيد, و راكبها يؤمل و يحدث نفسه عن همومه. لكن لا يدري ما يخبئه له القدر. هل كان حميد ينعي نفسه ؟ في عقد الثمانينات الماضية, كتب الشاعر صلاح عبدالصبور, عدة مقالات في مجلة الدوحة القطرية, تحت عنوان ( علي مشارف الخمسين ). روي فيها سيرته الذاتية, ثم مات فجأة بعد أن أكمل كتابتها. قال النقاد, أنه كان ينعي نفسه. و هكذا الشعراء, ذوي بصيرة نافذة.
يا حميد : صحي الموت سلام ما يغشاك شر.