حميد.. حزنك عندما ترى برعماً في الحديقة يزوي 
 
خالد فتحينشر في الراكوبة يوم 21 - 03 - 2012
 
بقلم: خالد فتحي
 
بالأمس وطائر الموت يرفرف فوق سماء مشرحة مستشفى أمدرمان التي سجي تحت سقفها نعش الشاعر (محمد الحسن سالم حميد)، الكل كان يحس أن الحزن يخصه وحده، وأن من رحل له وحده.. الزحام غير المألوف بالمكان جذب انتباه الكثيرين من المارة الذين جعلوا يتوقفون ثم يطوفون بأعينهم الحائرة يغطون المكان قبل أن يسألوا الواقفين خلف السياج (ده منو)؟ وسريعاً ما تأتي الإجابة (حميد)، وهؤلاء سرعان ما ينقلبون إلى هداة لحائرين سيأتون بعدهم يتساءلون بذات الطريقة (ده منو)؟ فيقولون بشيء من الأسى (ده الشاعر محمد الحسن سالم) ثم لا تتوقف الأسئلة تصب على الواقفين كأنها سوط عذاب.. (حادث ولّا شنو)؟ (أيوه حادث في طريق دنقلا)؟. وهكذا دواليك.. الحزن سيطر على المكان وخيمت به رائحة الموت الكئيبة. وبين لحظة وأخرى يشق المكان صوت بكاء عال، في خضم تلاوة من آي الذكر الحكيم تأتي منبعثة من (ريكورد) سيارة متوقفة في منتصف المكان. وبجانبها سيارة إسعاف سألنا عنها فقيل لنا إنها حملت الجثمان الى المشرحة.. وللمفارقة العجيبة أن السيارة كانت تحمل تحمل العلامة المائزة لمنظمة (رد الجميل).. هل كانت مصادفة بحتة أن يأتي جثمان (حميد) محمولاً على سيارة إسعاف تتبع لمنظمة (رد الجميل). والمنظمة المار ذكرها تفتق بها ذهن شاعر الشعب (محجوب شريف) ووجدانه الفسيح امتناناً لحملة التضامن والنفير التي انتظمت الآلاف داخل وخارج السودان، وحملته الى (لندن) منذ ما يزيد عن الأربعة أعوام مستشفياً من داء وبيل ألمّ برئتيه جراء استنشاق الأبخرة السامة المنبعثة من (الاسبتوس) التي تستخدم على نطاق واسع في السجون والمعتقلات.. ولعل ما جمع بين (حميد) و(محجوب شريف) أكثر من الشعر.. فقد جمع بينهما فضاء الإنسانية والبساطة وحب الناس. لذا لم يكن مصادفة أيضاً أن يتخير (حميد) اسم مجموعته الشعرية الأخيرة مسمى (أرضاً سلاح)، والاسم مستلف أو مقتبس من قصيدة شهيرة ل (محجوب شريف) يقول فيها
أرضا سلاح
.. لو نتحد ضد الجراح
.. نبني الديمقراطية صاح
.. نبنيهو صاح.. وطن البراح
.. وطنا مجير لا مستجير لا مستبد لا مستباح
. وفي آخر مقابلاته مع فضائية (النيل الأزرق) يشير (حميد) الى ذلك بأن محجوباً يعد أول من استجلب مصطلح (أرضاً سلاح) من ساحة الحرب والعسكر الى باحة الشعر!! وقد حملت المجموعة الشعرية العديد من القصائد منها (مرق الحلم)، (سوقني معاك يا حمام)، (ملح المشاعر)، (بشارة)، (كسوة الكعبة)، (أرضاً سلاح) ومن مقاطعها
أرضا سلاح
..ترحل هموم
.. تنصان دموم
.. والبال يرتاح
..أرضا سلاح
ل (حميد) طريقة تبلغ حد الفرادة في قراءة أعماله الشعرية، إذ يأتي صوته منغماً مترعاً بالشجن كأنه يبكي أو على وشك أن ينفجر في البكاء.. وتلك الطريقة التي تميز بها وميزته عن الآخرين جعلت قراءة أعماله عصية على آخرين سواه، لذا فالمتلقي قد لا يصادف طعما أو نكهة لأعمال (حميد) إلا إذا قام بتلاوتها بنفسه خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن قصائده في غالبيتها ذات مقاطع لفظية بالغة الصعوبة إذ استمدها الشاعر من بيئته التي عاش فيها وشهدت طائفا من حياته.. وتأثير البيئة لاتخطئه الآذان في مسيرة الراحل وفي رائعته (نورا) التي تغنى بها الفنان الراحل (مصطفى سيد أحمد) على سبيل المثال يأتي على ذكر بعض منها في قوله
يا نفس فجر القصائد
.. يا بلادي
.. القطع قلب الروادي
..باللواج الجاي وغادي
..ده ما هو صوتك
.. لاها صورتك
..دي بترقش ناديي فوق صدر الجرائد
.. ماها صورتك..لا هو صوتك
.. لاها صورتك
..إنتِ يا حضن الصحارى
..شفع العرب الفتارى
..البفنو الشايلا إيدن
.. ويجرو كابسين القطارة
وصورة (شفع العرب الفتارى) التي جاء على ذكرها ( حميد ) في ثنايا قصيدته يكاد يعلمها كل من كانوا يتخذون من (البصات) و(اللواري) وسيلة لقطع الصحراء من الخرطوم الى ربوع الولاية الشمالية حتى وقت قريب حيث يقوم الذين يستغلون تلك المركبات بالجود بالمتبقي من (زاد الطريق) الى الأطفال الذين يأتون مندفعين خلف المركبات، لأنهم لم يعودوا بحاجة إليهم بعد أن بانت لهم معالم أمدرمان من بعيد. وتلك الأغنية بالذات ستحمل (حميد) على البكاء في البرنامج الذي ذكر آنفا بفضائية (النيل الأزرق) من تقديم (نسرين النمر).. عندما استمع الى بعض منها بصوت (مصطفى سيدأحمد) في إحدى حفلاته الجماهيرية، وشاهد الملايين عبر الشاشة البلورية كيف ترك (حميد) دموعه تنساب على خديه جهرة دون مواربة. وفسّر (حميد) دموعه تلك بأنها عرفانا للقطريين الذين رعوا تجربة (مصطفى) دون أن يفكروا أن رعايتهم تلك يمكن أن تؤثر على الصلات السودانية القطرية باعتبار أن (مصطفى) كان لديه آراء واضحة ضد نظام الإسلاميين في الخرطوم. ولم ينس إرسال تحياته الى آخرين من السودانيين الذين ساندوا (مصطفى) وقتئذٍ خص منهم الدكتور (عمر إبراهيم عبود). وفي لهجة معبرة للغاية قال إنه لم يبكِ لموت مصطفى (الموت عندنا في بيوتنا وفقدنا كتيرين) لكنه بكى لعظمة هذا الإنسان (في إشارة لمصطفى) كيف يقدر على الغناء برغم آلامه وأوجاعه. وقد ودعه (حميد) بمرثيته الشهيرة (مصابيح السماء التامن وطشيش).. لقد كان التصاق (حميد) بالأرض والبسطاء من الناس مدعاة ليتلمس آلامهم ويتحسس أوجاعهم، فالقصيدة عند (حميد) ليست ترفاً بل ميلاد القصيدة كما قال ذات مرة مثل «شوكة طعنت» مزارع ومجاري الري تضايقه، وليس أدلّ على التزامه جانب البسطاء من رائعته «الضو وجهجهة التساب» التي سطرها عطفاً على مأساة السيول والفيضانات التي ضربت المنطقة في 1988م.
و(حميد) يعتبر من جيل الشعراء الذين كسروا المسافة الافتراضية بين الأشعارالوطنية والعاطفية، على ذات النسق الذي قام به شعراء قبله؛ الذين كناهم الموسيقار الراحل (محمد وردي) بالشعراء الفلاسفة أمثال (عمرالدوش) و (علي عبدالقيوم) وزد عليهم (محجوب شريف) و( هاشم صديق) وهذا الامتزاج تجده كثيرا في الأعمال التي تغنى بها الراحل (مصطفى سيد أحمد) كأغنية (طيبة) ومن مقاطعها الرائعة (أغني لشعبي ومين يمنعني .. وأغني لقلبي إذا لوّعني)، فانظر الى ذاك الامتزاج كما الماء والخمر كما في المقاطع التالية
حبيبة قلبي يا سودانية
يا أسمى معاني في زول بيعاني
ياود ضكران .. ويابتْ دغرية
وأنا إنْ سامعاني فضّلت أغاني غُبش .. فقرية
وروح غانياني
حويتك منك يادافعاني براحة إيديّ
ويا جابداني ... برفق عليّ
وما بتحيّر بين الفوق .. وبين الناس التحتانية
إلاّ مغيّر .. ولاّ عقُوق .. ولاّ كفيف الإنسانية
ومنِّك وين يا كاشفة عينيّ
بنور الإلفة .. ضِيا الحنية
وحِلم العالم .. ناس تتسالم
والبني آدم صافي النية
والأطفال الناشفة ضلوعا
يطمِّن روعا
وتبدا تغني
غناوي البكرة .. الكم مسموعة
حسيس طنبارة .. مع نُقارة
صفِقتاً حارة .. ودارة تغني
فيا حلتنا عليكِ تُرابك ..
وإنتِ شبابك زينة الجَنِّى
أحلى عروس البلد اللّتنا
ولاّ الغُبُش الرّابّة تهني
ولاّ هدير المدن التصحا ..
وتمحى ظلام الحاصل .. عنّي
وعوداً على بدء فقد شكل (حميد) و(مصطفى سيد أحمد) واحدة من أجمل وأزهى الثنائيات الفنية في الأغنية السودانية. ولما كان على الاثنين بعض من ظلال الانتماء لليسار انطوت أعمالهما المشتركة على شيء من الظلال السياسية حتى لو لم يريدا ذلك.. وأنتجت تلك الثنائية العديد من الأغنيات الخالدة لكن أبرزها على الإطلاق (عم عبدالرحيم) الذي جعل منه (حميد) رمزاً لحقبة سياسية كاملة.. وأسبغ عليها مصطفى لحناً فريداً غير مسبوق في الأغنية السودانية.. شيء أشبه بالموسيقى التصويرية منه الى اللحن ما أضاف على العمل ثراءً على ثراء.. ويقول (عبد الجبار عبد الله) في مقالة بعنوان ( معزوفة البطل التراجيدي .. "عم عبد الرحيم".. كيف نتذوقها موسيقياً وجمالياً)؟ .. "تبدأ تراجيديا الأغنية بإشراق شمس يوم جديد, صلاة الصبح, ثغاء الأغنام, الهم وهمهمات الصلاة والذكر والتسابيح وتحديات الحياة اليومية وعنتها. يغادر عم عبد الرحيم جراحاته ومآسيه العائلية الصغيرة ليندغم في المأساة الأوسع نطاقاً على امتداد القرية كلها، ويحدّد موقعه من العلاقات الاجتماعية السائدة التي تحكم عليه، وعلى أمثاله بلعنة الفقر مقابل تمايز طبقي آخر لا تستشعر فيه الفئات الاجتماعية المحظية وطأة الفقر ولا الجوع ولا المعاناة. فهؤلاء "ناساً حالها زين" كما يقول (حميد).. وفي هذه المقاطع بالذات يقوم (مصطفى) بتحوير مجرى اللحن لتركيز الفكرة في أذن المتلقي وهذا ما يسمى درامياً بذروة المشهد، ونعود الى الكاتب عبد الجبار عبد الله الذي يقول "ثم تأتي مقاطعها النهائية التراجيدية المرعبة لحياة البطل المأساوي. فما بين مأساوية الصبح الحزين والهموم البيتية العائلية الصغيرة والطريق إلى عناق مأساة الحياة كلها بهمومها وظلمها وخوائها وفقرها, يتنامى الحدث, يتوتر, يحتشد ويتصاعد إيقاعه باتجاه الذروة المفضية حتماً إلى النهاية المأساوية المفجعة تحت لفح هجير شمس الظهيرة الحارقة:
السكة الحديد يا عمو القطر...
يا عم عبد الرحيم قدامك قطر....
السكة الحديد يا عمو القطر...
وسال الدم مطر وطارت دمعتين
وانشايح وتر ...
والمتتبع للنسق الدرامي الذي انتهجه المغني في مسارات الأغنية يلاحظ أن صوته ارتفع محتداً متسارعةً نبراته عند بلوغه مقاطع مسابقة (عم عبدالرحيم) و(الكجر) في إشارة لدورية الشرطة التي نشطت في ملاحقته، متقاطعة مع (القطار المسرع) وصولاً لمشاهد النهاية التراجيدية أن سوّى القطار عظام (عم عبدالرحيم) بالأرض بينما تطايرت دماؤه في المكان. 
 
 
سودارس