بسم الله الرحمن الرحيم
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
صدق الله العظيم
...
سأتجاوز تقاليد المقدمة.. فالموقف ليس تقليدياً .. وسأبكي صامتاً ولكم أن تستمعوا إلى بغير آذان ..
جاء حميد إلى هذه الدنيا لطيفاً مثلما يأتي الغمام، ورحل عنها خفيفاً مثلما يرحل الظل .. عاش بين الناس عفيفاً كريماً لا يحمل هماً يفصله عن هموم الناس، ولا يطلب عزاً يستأثر به دون سائر الناس ..
أحب وطنه كما أحب المجنون ليلى، وعشق ترابه كما عشق كثير عزةَ عزة .. وقد ألمح الصديق الدكتور عبدالرحيم عبدالحليم إلى أنه ولد في سنة الاستقلال ومات في عام الانفصال، وكأنه أراد أن يقول ولد بفرحة الحكيم ومات بغضبة الحليم .
كان موته فاجعة لكل أهل السودان بل كان خبر وفاته كالصيحة .. ورغم أن السودان قد افتقد قبله كثيراً من العظماء والمبدعين ، وتلقى كثيراً من الصدمات واللكمات، إلا أن موته كان فاجعةً وكان خبرُ وفاته كالصيحة.
ولقد جمعتني بالراحل حميد صحبةُ عجيبة اقتربت فيها من هذا الرجل الخاص، ورأيت كيف أنه كان يحمل فوق كتفيه هموم المهمومين ودين المدينين وعثرات الفقراء المتعبين وآمال الغبش الهائمين والغلابة المنهكين .. حتى إنه حرم على نفسه أن يعيش بعيداً عنهم فكان سكنه كسكنهم وعيشه كعيشهم .
لمـّا أفوتك من دون خاطر
أو دون خاطر منى تفوتى
بلقى حبايب فى كل حِتـّة
وكل بيوت الفُقرا .. بيوتى
كان حميد شاعراً عبقرياً، ولكنه لم يكن كسائر الشعراء ولا كان شعره كسائر الشعر، فهو ما كان يقول الشعر ليمتّع ويستمتع، ولكنه كان يزن الهم ويقفيه، ويبني جرح الوطن أبياتاً ويصرعها، ليخرج للناس أغنية يمنيهم بها ويبشرهم بقرب بلوغ الهدف.
لقد كان حميد حقاً صاحب مدرسة شعرية متفردة استطاع أن يؤسس بنيانها على قواعد الحكمة والعبقرية الفذة ، وأن يجمل حيطانها بحب الوطن .. والدفاع عن الغلابة والمعدمين من الفقراء والمساكين .. فهو لا يكتب الشعر من أجل النظم ولا يهمه نتاج القصيد .. وإنما هو ينادي بقيم العدل والمساواة وينهى عن الظلم والفساد فيخرج كل ذلك للناس كلاماً موزوناً كأجمل ما يكون الوزن ومقفى كأحسن ما تكون التقفية ... وهنا يكمن الفرق بينه وبين معظم الشعراء .. فالشاعر يتجه لإبراز قدراته الأدبية والفكرية الإبداعية من خلال ما يطرح من قضايا، ولكن حميد كان يتجه لإبراز قضيته من خلال قدراته الأدبية والفكرية الإبداعية.
وحميد لا يدفع بأفكاره إلى الكلمات فقط بل يضيف عليها نسيجاً حياً من انفعالاته فيعلو بها قمم الجبال .. وإذا كانت قصائده المكتوبة تحرك النفس الخامدة وتلامس الوجدان المغبون، فإن أداءه الشعري يقتل اليأس في النفس ويعمق الإحساس بالحياة .
بدأ حميد شعره بالمباشرة والتصريح، ثم عمد زماناً طويلاً إلى الرمز والتلميح، ثم اتجه بعد ذلك إلى المعاني المزدوجة فكان ما يقوله، وإن كشفت مفرداتُه المعنى، فإن المتلقي يفسره حسب ما يشتهي بتفسير يقترب به من هدفه هو ولا يبعده من أصل المقصود، وبذلك استطاع حميد أن يشحذ جموعاً كثيراً من المتلقين المختلفي الثقافة والتوجه حول النص الذي بات يحمله كل ضروب الحكمة وفنون التلوين وزخرفة الجمال.
كنت حين استمع إلى حميد أو أجالسه أقارن بينه وبين أبي الطيب المتنبي .. كان ذلك في أول الأمر بسبب عجبي بهما معاً، ثم سيطر ذلك على تفكيري فبدأت ألتمس أسباب ذلك فوجدت شبهاً شديداً في جوانب عديدة.. رأيت أن كلا منهما قوي الحجة شديد الفصاحة متقد الشاعرية عظيم الحكمة بالغ التصوير رفيع الانتقاء، ثم رأيت أن هناك أموراً أخرى أشد عجباً وغرابة جمعت بين الشاعرين وشابهت بينهما، وأموراً تليها أشد عجباً وغرابة فرقت بينهما فإذا هما شديدي الاختلاف .. رغم اختلاف العصر والبيئة وتفاوت المنهج واللسان وتباين التكوين..
كان لكل منهما قضيةٌ ضخمة تشغل الفكر والفؤاد، ولكن كانت قضية أبي الطيب قضية شخصية ينظر من خلالها إلى السماء وكانت قضية حميد قضية عامة ينظر من خلالها إلى الأرض..
وكان أبو الطيب يبحث عن الملك، وكان حميد يبحث عن العدل الذي هو أساس الملك ...
وكان كلاهما أبياً عزيزاً ولكن العزة التي قتلتهما كان مصدرها مختلفاً .. أنظر إلى أبي الطيب يخاطب أمه قائلاً
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أماَ
ثم أنظر إلى حميد كيف يخاطب أمه !
زينوبا كلما افتح كتاب ألقاكي في أول سطر
القى الحبايب والصحاب القى الجناين والتمر
فالمتبني جعلته العزة معتداً بنفسه وأما حميد فقد جعلته العزة معتداً بقومه ...
فهذا يقول عن نفسه:
لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي
وحميد يقول عن قومه :
غلابه وأمان مو الطيابة
ضكارى بصارى وكرام
حبابه الحبان في بابه
وتدخلوا عليّ الحرام
فقارى ولكن غنايا
غنايا بهذا الغمام
بهذا النيل كم تغايا
وتيرابا النرميهو قام
ويقول
وطنى ولا ملى بطنى
سكاتى ولا الكلام النّى
قليلتى ولا كُتُرْ سمّى
بليلتى ولا ضبايح طى
فالمتنبي معتد بنفسه فوق قومه، وحميد معتد بقومه فوق نفسه..
وأكثر الذي يجمع بينهما في إطار هذا الشبه هو نبوءاتهما .. فأبو الطيب الذي لقب بالمتنبئ بسبب قوله :
ما مُقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود
وقوله
أنا في امة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
قال عنه بعض الشراح إنه سمي بالمتنبيء لأنه تنبأ بنبوءتين تحققتا على زمانه .. وأما حميد فقد كان له في هذا الباب أمر عجيب .. فقد تنبأ بخمس نبوءات، تحققت على زمانه ثلاثٌ منها، ومات عند وقوع الرابعة، وترك لنا واحدةً الله وحده يعلم متى تتحقق ولكننا نتوق شوقاً إليها ونتوقع حدوثها كل حين!
يا مطر عز الحريق
يا مصابيح الطريق
يالمراكبيي البتجبد من فك الموج الغريق
جينا ليك والشوق دفرنا يا المراسي النتحويبا
لما ينشعوت بحرنا
يا جزرنا وقيف عمرنا
يا نشوق روحنا ودمرنا
يا المحطات الحنيني القصرت مشوار سفرنا
وأما الثانية، فقد كانت سد مروي ذلك الأسطورة التي لم يصل حتى المسئولون آنذاك فيها إلى مجرد التفاؤل أو التذرع بالأمل .. كان حميد وقتها يحلم بخزان الحامداب ...
يلاقوك شفّع الكتـّاب
نضاف وظراف بلا النسمى
يغنولك غناوى السـاب
وفى بيوضة مافى سراب
جبال كجبي وفيافى الكاب
تميد بى الخضرة ...منقسمى
فيافى الصّى وبيوضة ..
البراسيم فيها مفروضة
خدارا يرارى شوف عينى
على الأبواب .. طواريها وحواريها
بقت روضة
بقت تشرب من الحامداب ..
تشوفى رهاب ... بُعُد نجمى ..
بشوفو قريب قُرُب نضمى
وأما الثالثة فهي انفصال الجنوب عن سوداننا الحبيب، وقد تنبأ بالانفصال حين كانت الوحدة هي حديث المتمردين ورأسهم الأكبر جون قرنق .. كانوا يتحدثون عن السودان الجديد وعن تحرير السودان وضم وداي النيل وكان حميد يلمح إلى الانفصال ..
يا بت العرب النوبية
يا بت النوبة العربية
دسيني من الزمن الفارغ .. من روح المتعة الوقتية
من شر الساحق والماحق .. بين دبش المدن المدعية
والليل يتحكر بيناتا
كحّل بي دبشو عويناتا
يا شمس الناس المسبية
روحت اتنسم أخبارك .. لا تشفق قالو لي نصيحي
وأنا عارفك ممكونة وصابرة .. لكن لي ناس إلا تصيحي
جواي مأساتك مغروسة ..
يا طفلة تفتش في باكر ما بينات نخلة وأبنوسة
الجوع العطش الفد واحد .. الفقر الضارب زي سوسة
الخوف والحالة المنحوسة
يا بحر الحاصل .. لاك ناشف .. لا قلمي الفي إيدي عصا موسى
ولك أن تتساءل لماذا قال بت العرب النوبية ولم يقل بت العرب الزنجية وهو يتحدث عن الجنوب والشمال؟ فهو لا يريد ان يحدث وصفين للشمال والجنوب مثلما فعل حينما رمز للشمال بالنخلة وللجنوب بالابنوسة لذلك اختار سحنة اقرب الي تكوين النصفين، ولربما أراد أن يقول الأمر أبلغ من الشمال والجنوب! ولا شك أن في ذلك إشارة كذلك لما يجري الآن في منطقة جنوب كردفان كأحد أهم نتائج الانفصال! ومعلوم أن منطقة جبال النوبة هي منطقة حدودية طولية يدور حولها أعظم الصراع حالياً فاستخدم عبارة موحية لأمرين عنيفين أحدهما يتبع الآخر وينتج عنه أو ينتجه!ولماذا ربط قضية الانفصال بالجوع والعطش الفد واحد والفقر الضارب زي سوسة والخوف والحالة المنحوسة؟ لأنه إذن لم يكن يتنبأ بمجرد الانفصال ولكنه الحق به توابعه! ولعل الجميع شاهدوا هذا يحدث الآن في جنوب السودان بعد الانفصال.
ثم لماذا شبه ما جرى بقصة موسى وفرعون وبني إسرائيل؟ لماذا قال يا بحر الحاصل لاك ناشف لا قلمي الفي ايدي عصا موسى؟ ولماذا لم يختر أنموذجا غير انفصال البحر ونبياً غير موسى؟
لأنه هو يقارن بين الفصل الذي وقع في البحر لمصلحة بني اسرائيل بالحق حين كرمهم الله، وبالفصل الذي سيقع على اليابسة لمصلحة بني إسرائيل بالباطل بعد أن أذلهم الله! فكانت الأولى ابتلاء وكانت الثانية استدراجاً ... وهذا لا يخفى على أحد! ..
وأما الرابعة فهي موته في صحراء بيوضة ! وقد تنبأ قبل ثلاثين عاماً بموته في الصحراء ولم يلتفت لذلك أحد، وتنبأ أنه سيموت بسبب الرمل الزاحف على شريان الشمال..
بالمد الثوري المتدافع .. فوق دربك تب ما متراجع
رغماً عن عنت الأيام .. والزمن الجهجاه الفاجع
ما رمل الدرب الوسطاني .. وكتين الراحل وصاني
لا ترجع ساكت يا شافع
لا ترجع شافع يا ساكت (أي أشفع بموتك)
خُتْ بالك وعينك في الشارع
لا ترجع .. لا .. لا
لا ترجع .. لا .. لا
لا ترجع .. لا .. لا
لا ترجع .. لا .. لا
ولك أن تنظر فقط إلى المفردات التالية : المتدافع .. الفاجع .. رمل الدرب الوسطاني .. خت بالك وعينك في الشارع ... ما متراجع .. لا ترجع
ومن الغريب أنه ربط نبوءة موته بنبوءته الخامسة وهي عودة السودان بعد حين من الدهر إلى الوحدة وإلى مليون ميله المربع! وهذا ما يقوله الآن دعاة الانفصال انفسهم!
يا نورة شليلك ما فات
بي عدلو شليلك جاييكي .. ما جايي ألم التمرات
لا أبكي وأقابل بالفاتحة .. في زولاً ليّا مرض .. مات
جاييك أتزود من غلبك .. وأكفر خطأ غيمةً ما جات
نبحت لها كل المعمورة
والناس يوم تمرق مدخورة
يا نورة نشيلك غنوات
وآمال بي باكر مضفورة ..
طلابك وأقلامنا هويتك .. قدامنا قضيتك سبورة
رتّبنا الخرطة البتوصل .. أدِّينا الخاطر يا نورة
وهو هنا يتحدث بمرارة عما سيفعله الانفصال كمرحلة تاريخية حتمية سابقة لنبوءة الوحدة وهو خطأ الغيمة التي ستأتي محدثة الانفصال ( والغيمة يقصد بها الانفصال السلمي) وهو الامر الذي تنادت به وارتضته كل الدنيا فيا سبحان الله! جاييك اكفر خطأ غيمة ما جات نبحت لها كل المعمورة ! ومن منا لم يلاحظ الانحياز الواضح او الصمت الفاضح لما جرى لتقسيم السودان؟ ثم طمأن نورة قائلا يا نورة شليلك ما راح والناس يوم تمرق مدخورة يانورة نشيلك غنوات وآمال بي باكر مضفورة ... طلابك واقلامنا هويتك قدامنا قضيتك سبورة رتبنا الخرطة البتوصل ادينا الخاطر يانورة ! ولك ان تتأمل كل هذه المفردات .. نعم كل هذه المفردات، وقد ألمح إلى ذلك جلياً وهو العودة مجددا الي الوحدة حين قال فيما بعد وبعد أن أصبح غبار الانفصال يشاهد في كل مساء ..
بلد صمي وشعب واحد
عصية على الانقسام
ولكل الذين يرون في نبوءة حميد بالعودة إلى الوحدة ضرباً من الخرافة أقول .. إن سد مروي كان أكبر خرافة، وكذلك انفصال الجنوب لمن كانوا يحلمون بالوحدة الجاذبة من أبناء الشمال والجنوب كان أكبر خرافة .. وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود!
مرة أخرى سأتجاوز همهمات الخاتمة... فالموقف ليس تقليدياً...
اللهم يا رحمن يا رحيم .. إرحم عبدك حميداً .. اللهم أكرم نزله ووسع مدخله واجعل قبره روضة من رياض الجنة .. آمين