حميد وما أدراك ما حميد وشعره
لقد ولد هذا هذا الإنسان رحماناً والرحمة هنا مجازية ألم يقال أن "الشعر من نفس الرحمن مقتبس والشاعر الفذ بين الناس رحمن" في بدايات عام 1956 بعد إستقلال السودان فدخلت نسائم الحرية رئتيه مع أول شهيق ولم تخرج مع زفيره الأول بل سكنت هناك ، وربما كانت صرخاته الأولى موزونة ومقفاة مشبعة بالوطنية والحرية والإنسانية. لقد شب حميد مثل أقرانه في قرية جريف نوري بين الطرفي والنيل والحلافي أسيراً للمحبة والوطنية والشعر الخرافي. هام بحب وطنه الصغير ولم يود مفارقته وكاد أن يتمرد على مستقبله العلمي في أول محك له عندما ابتعد من أهله وأرضهم مسافراً للدراسة بمدرسة عطبرة الثانوية "مدرسة الجلود". فبسبب البعد من الأهل تفتقت موهبته الشعرية وهو ابن سبع عشرة سنة فكتب "شن طعم الدروس ما دام بكانا مشي قطر ، زينوبة كل ما افتح كتاب القاك في أول سطر ، القى الجداول والصحاب القى الجناين والتمر ، في الحصة عقلي أنا قام سدر يمه المدرس لو فكر ، كان بلقى قاعد فوق ككر في الدونكى لسع ما فطر، والله موش لو كان نهر لو كالني بسيطان بقر ، مادام عقيل الجن سدر ما اظنو من عندك حضر ، زينوبة كُر من حالي كُر قاعدلي فوق نيران جمر، غربة وكمان حالاً فقر عذبني قبل أصل القبر" لقد وجدت تلك القصيدة مكاناً في نفوس الناس في المحيط المحلي وذلك من خلال رسل الإعلام المحليين وقتئذٍ وهم الفنانون ، حيث تغنى بها الفنان محمد كرم الله ، ربما لم يدرك السامع والقاريء ما حوته تلك القصيدة من رؤئ لم يهتد لها الساسة وقتئذٍ وهي وجود مدرسة في كل قرية ولكنهم وصلوا لهذه الرؤية بعد ثلاثين عاماً "ثورة التعليم في السودان".
قوي عود الفتى وإتسع حبه للناس مع الأيام مع إتساع أفقه السياسي فعشق نورة وهام بها. ولكن لم تكن نواره ذات حورٍ ، أو غراء فرعاء أو مصقولة العوارض تمشي الهوينة كما يمشي الوجي الوحل ، ولم تكن نواره في مشيتها من عند جاراتها كمر السحاب لا ريث ولا عجل ، بل كانت "بت واطة أخت كل الغلابة" " هيْ .. أقيفِنْ .. ، نورا فِيكِنْ ؟ . ؟ ، نورا ... ، نقّاحة الجِّروفْ ..، نورا ... حَلاّبة اللِّبيني .. للصغيرين والضِّيوفْ ، نورا ...ساعة الحَرْ يولِّعْ .. تنقلِبْ نسمة وتطوفْ ، تَدِّي للجيعان لقيمة ، وتَدِّي للعطشان جغيمة ، والمَخَلِّي الحال مَصَنقِرْ .. ، في تَقَاة اللّيل تَندْقِرْ .. تدِّي لي باكر بسيمة ، تَكْسي للماشين عَرَايا وفوقا ينقطّعْ هديمه ، ما عِرفتِنْ ... ، نورا إنْتِنْ .. ؟؟؟ ، قولِنْ إنتن شِنْ عِرفْتِنْ ؟؟؟ نورا بِتْ الواطة أخيْتِي .. ، نورا أخُتْ كُلّ الغلابة ، نورا حاحاية الشّقاوة .. ، نورا هَدّاية الضّهابة ، مَرّة يوم في الدُّونْكَا لِدْغَتْ ، جاء الفقير بالليل حَوَاهَا ، ويوم ملاها الهم قطايع .. ، جاء البصير بالنّار كَوَاهَا ، نورا ما قِدْرَتْ تمانع ، تقنع النّاس المعاها ، مرة شافت في رؤاها طيرة تاكل في جناها ، حيطة تِتمغّى وتفلّعْ في قَفَا الزّول البناها ، في جنينة سيدي سِمْعَتْ شتلة تصقع لي الوَرَاها ، دي الأرض ولابُدَّ ترجع للتِّعِب فوقا ورعاها ... ".
أيضاً لم تجد نوراه "الإنسان المحبة للتراب والوطن" حظاً من الإنتشار وقتئذٍ فظلت حبيسة ألسنة الترابلة والطلاب وأهل الريف يتغنون بها من خلال لحن شجي أصبغه عليها الفنان محمد جبارة وقد وعد حميد نواره قائلاً " جايى ليك يا نورة آفة .. للسوس الجا ينقـِّر عود عِشيماً داخرو فيك ، أصلى لمـّن أدور أجيك .. بجيك لا بتعجّزنى المسافة ، ولا بقيف بيناتنا عارض ، لا الظروف تمسك فى إيدى ، ولا من الأيام .. مخافة".
جبرت الظروف مرة أخرى حميد ليحط رحاله في الخرطوم موظفاً في هيئة الموانيء البحرية عام 1978، وهنا اكتملت صورة معاناة الناس أمامه وتوهج حسه الوطني فكتب "نادوس" وهي كانت من أولى قصائده التي دخل بها على مجتمع المدنية وأدبائها وطلاب الجامعات في وقت عزت فيه كلمة الحق خوفاً من بطش السلطة ولكنه أودعها رمزاً فرج به الهم من قلوب الناس وتعرض بعد هذه القصيدة وخلال عمله بهيئة المواني البحرية بالخرطوم لأسوأ أنواع المضايقات من رجال الأمن والسلطة وهو لا يملك حولاً ولا قوة بل وظل لا يملك من القوة سوى "نغيماً" نادى به الغبش قائلاً " يا غبش ما عندي ليكم غير نغيم برجوه ينفض لي غبار زمن القسى الكتاح ، يهز عرجون صبر نخل الغلابة الطال ، يحت يخرت تباريح الأسى الممدودة فوق نور الدغش ، يا نورا آهـ.. ، يحرد كنائسنا المسيح، يعرش مدارسنا الصدى ، ييبس .. يباس حلق العصافير الوديعة من البكا ".
لم يحمل حميد هم نفسه بقدر حمل هموم أهله وأهل السودان جميعاً بجة وعرب ونوبة وحلب ومولدين ، فذاب بصوفيته في تراب الوطن وذاب الوطن فيه حلولاً لأنه يؤمن إيماناً تاماً أن " الأرض مخلاية التعب ، مصلاية العشق الصعب ...ما بتستباح" فأصبح الوطن أحد أطرافه وهو القائل "وطني يا فردة جناحي التاني وكت الناس تطير لي عالما ، وا وجعة الزول اليجيك ، ما يلقى فيك غير الهجير ، ناسا تواتي مسالمة ، كل البشاشات القبيل
يلقاها ميتي مسممة ، والجاتا جاتا من الأرض ما جاتا من تالا السما ، ما اعتى غبنك يا ولد ، وأعدل قضيتك وأعظما ، لا ترجع السيف الجفير والدنيا فايري مصادمة ، من غير تجيب تار البلد ريح العوارض تهزما ، وتطرد مع إبليس الاخير دعة الضلال من جنتك يا آدما".
فالوطن أصبح قدم حميد التي يمشي بها ، ويده التي يعمل بها ، وشهيقه وزفيره بل ولسانه الذي يلهج به ، فما نطق كلمتين إلا وكان الوطن واحدة منها. كان همه الناس تتسالم ، كان همه إسعاد الآخرين التعابة وتجلى ذلك في أولى قصائدة منادياً مطالباً بلسان أهل قرية الجابرية ، بصوت عال ، ببوستة ومدرسة وسطى لقرية الجابرية والجابرية هي رمز لكل قرى السودان ،. لقد كان حميد لسان حال بنت العرب النوبية وبنت النوبة العربية ، لسان شفع العرب الفتارى "البفنو الشايلا إيدن يجرو داقسين القطارى" ، لسان الشغيلة ، لسان المزارعية ، لسان كلات المواني ، لسان الغبش التعاني ، لسان لقاطة القطن ، لسان العمال في الفرن "الشغلانتو نار والجوء كيفن سخن".
رمز حميد بالنخلة لصموده ونضاله وصمود ونضال كل من له قضية ويؤمن بالوطن ، فالنخلة ترمى بالحجر فترمي أطيب الثمر ، فـ" النخلة ما بتقدر تخون الأرض ... ما بتقدر تكون غير مراح ، لي همبريب يغشى البيوت ... عند الصباح .. نص النهار ... عند المغيب ...، عز الرياح النخلة تتجاسر تصون عش الطيور البينا ...تفرد للجناح، ما ليها غير تطرح تمور ، تملأ الشواويل ... والقفاف ، ينتم زين ... ينحل دين ، يطلق ضهر زولا بسيط واقف على حد الكفاف" ، فالنخلة هي التي تقوى على الشدائد من عطش وجوع ورياح ومصائب وحتى لو أدركها الموت تحولت لما ينفع البشر "والنخلة لو عنف الرياح ... الصاقعي ، أهوال الفصول ... البودي وآفات الذبول ... ، قدرن على ساقا الهفيط ... تقع وآ بتموت روحا المدردحة آبتفوت ..جسدا المعمَّر بالخلود ....تلقاها خشت في البيوت ... بي كل صراح تقروقة ...سجاجة طهورة .. طبق من العرجون ... ضنيب هبابة ، طاب ... طبطابة .. قفة وكسكسيكة ... حبل متين فتلوهو في ضل الدليب، نشلوبو من بير للشراب، نسجوبو بنبر وعنقريب ، تلقاها خشت في البيوت ... وبي كل صراح ، جوبيل جريد ... يعرش تقل بيتا جديد ، أول دخلتو عريس سعيد مبسوط يقرقر بإنشراح ، منعم مشاط من شوكا كان وشقة مسايرك ياام سماح ...أو حتى واقودا تقيدو السمحة ... في نار بارتياح ، لي يوم عزيز... يطلع خبيز، دكاي اللِيل صُفاح ، يطلع ملاح ... بَرْوبُو ناساتاً ضيوف ، ولىَّ زول وراهو شغل بعيد ... جابرا الظروف ، يمرق قهيوتو وشاي صباح ، وآخر المطاف ، الموت بيشرق نسمة في كف الصباح ، الموت بيسرق بسمة من شال الصبا وتوب الزفاف ، النخلة ترباية العباد ... بي جلالا تنحول رماد ، ورمادا ينحول سماد ، وسمادا يدخل كم بلاد... وِدْيَانا تخضر والبطاح".
عندما كذبت وعود الساسة كتب "أنا انيقنت من تالاك لا آسف ولا محزون ، على العمر القضيتو معاك براي باقي الدرب بمشي ، وخطاي ما بتعدم الهدّاي ، أكان السكّة حارت بيْ ، وكان كرّت سموم الصيْ ، على نسم العشم جوّاي قوافل صبري ماب تضهب ، وأمان حاديها مو الدوباي ، خيول قبّال دا ماترّت ....ولا فرّت من الحوبات ...ولا صدّت سروجه بلاي ، منو العزَّ الحبيب ما لاك وقدَّس لي عيونو السود ، أكان سوِّيت غناك في عود كان خدّر ملا الواطة ، وكان فوَّح عبير وورود وما كان الزمن طاطا ، لا وقع انحزم واقود ، صه .. صبراً يا الحشا المهرود وهبِّد غلبك الوقّاد قبل ما يرقدك هبّود ، يا زارع حياتي صدود ، عذابي معاك إنّي غمامة وإنت كركي لا محدود ".
ولكن لم تخر عزيمته أبداً فكتب متحدياً " ما طال فى بحرك في مىِ وتمرك مفدع بالجريد ، شدرك إمد حد السمي طيِنك معتق بالطمي ، نبنيك أكيد نبنيك هوا ، نبنيك ايوا سوا سوا ، منو وجديد نبنيك جديد ، يا إيد أبوي على إيد أخوي ، على إيدى أنا ، على إيد وإيد تجدع بعيد فى اللجة من راس ميضنة ، حيكومة الفقر الكجار الكُضُبُن والصهينة ، واللى نقاص أيامنا جات ، اليالطيف سوس البحر نرجم قفاهو حجر حجر ، من ها الرصيف الما قدر قدام سريحة الموج يقيف ، آمنا بيك وموحدين ، في إيدنا فاس وقلم رصاص شتلة كمنجة ومسطرين ، وطبنجة في خط التماس حراسة من كيد البكيد ، ضد الرصاص والإنتكاس ، نبنيك جديد واشد باس ".
لقد صدقت نبوءته باخضرار بيوضه وظن الناس أن ذلك بعد النجم ولكنه كان يراه قرب كلامه "نضمه". هكذا حب حميد الوطن بكل آلامه واستمتع بجهاده من أجل إصلاحه "ايوة بحبك حباً جمة ، وياما بعزك يا نادوس ، ساقات حنك فيهن منك ، ومني المشق والقادوس ، يا ترقوة الحلم الواحد من شرا ريح الزمن السوس ، ايوة بحبك حباً جمة وياما بعزك يا نادوس ، احبك وانت ماساتي في زولا حب ماساتو" بل حمله جرحاً نازفاً منوسراً ونذر كل حياته له . رحل حميد بعد دعوات لم تتوقف يوماً واحداً من أجل السلام والعدالة الإجتماعية والديمقراطية والحرية ، رحل بعد أن فشل في إسترداد حرجه الشخصي الذي بدله الساسة بجرح الوطن العميق الذي ظل ينزف منذ الإستقلال حتى أصابته الغرغرينة فتم بتر الأجزاء ذات الجرح المنوسر، رحل عنا حميد يحمل جرحين ، جرح الوطن في قلبه وجرح آخر في جسده.
الجرح الشايلو دا مو اللِيلي
مين بدَّل جرحو يا عشَّاق
أنا جرحي بيقدرِمواويلي
خايل في الزمن الفرَّاق
أغرق من بحرِ سواد ليلي
وأقدم من صادي الأشواق
أتقل من ريحاً حات شيلي
وقافل واطاتي بأطواق
*** *** ***
أصلاً جيت عابر للدنيا
والجرح الطيِّب صادفني
وزيْ إنِّي بعرفو ومن بدري
وزي الشايفني وعارفني
طوّالي إتعلق في صبري
صارحني بعمقِ وكاشفني
إتربَّى في صدري مع الغنية
والفتَ عليهو ووالفني
*** *** ***
كان جرحي حبيبي قـَـدُر حالي
وفي مرّة مشينا على لمَّة
عند بابه إنكرم إستنّالي
بس فيكن عاشق يا أُمة
لمّاهو عليهو وخلاّلي
جرحاً بس ضمُّة أبى ينضمَّه
فرّح شُمَّاتي وعزّالي
أكبر من صبري ومن ثمَّ
لا داير يدخل موَّالي
لا قادر يمرق من نمَّة
*** ***
ما قادر أحِلـَـلُو يحلالي
أنا جرحي قديم ودا بـ دمُّو
مين فيكن خلاَّ جرح غالي
وشال جرحي القاشر بيهمُّو
ما طاقني جرحكن لا إنطاق
ورُّوني متينكن تتلمُّوا
ونتريَّح جملة يا عشَّاق
وكل جرحاً يرجع لى أمُّو
كل جرحاً يجمع في أُمو
http://www.youtube.com/watch?v=vjfQI8knwmI
حلف الزمان أن يأتي بمثلك حنثت يداك يا زمان فكفِّر ، ، نسأل الله أن ينزل عليه شآبيب رحمته بقدر حروفه التي صاغها شعراً وبقدر همومه التي حملها دون كلل أو ملل من أجل المظاليم والضعاف.
ملحوظة: القصيدة أعلاه قام المهندس عبد العظيم منصور بتلحينها وأدائها ، تجدها في الرابط أدناه:
http://www.algadwa.com/uploader/uploads/Jarih.mp3
تحياتي